عندما يُذكر العفاف تشنف بسماع وصفه الآذان، وتتسابق في الاتصاف به النفوس المؤمنة والوجدان، ويحرص كل سامع أن يكون له من وصفه نصيب حتى ولو ادعاءً، فهو فضيلة يحب الاتصاف بها حتى من ليس هو من أهلها، فكم من مقيم في دور الخزايا، غارق في مستنقعات الرزايا يظهر للرائين عفافه، ولو دعي بوصفه الذي يليق به لأقام الدنيا ولم يقعدها، ولكن كما قيل:
فاسق يظهرُ العفافَ ويُخفي
تحته الخزيَ يا له من مراءِ!
ذلكم لما في العفاف من فضل، ولما في ضده من عار وخزي، ولست أقصد هنا الإطناب في هذه الجزئية، ولا الحديث المفصل عن هذه القضية، إنما مقصدي يحوم حول ما أدندنُ حوله دائماً وهو البعد عن القرآن في فهم الفضائل والاتصاف بها. إذ من الناس من ينسلخ عن العفاف ولا يبالي بتعاليم دين ولا بعادات موروثة، فتراه مسارعًا لارتكاب كل ما يشبع غريزته الجامحة، وإن كان في ذلك خروجه من عباءة العفاف مطلقاً! ومن الناس من يغلو بالعفاف، ويتجشم إظهاره مبتعداً بذلك عن عفاف الفطرة، وينسب غلوه إلى الدين، والفرق بين الغالين والمفرطين هو في نسبة ما يفعله الغالي إلى الدين.
ولا شك أن في القرآن والسنة ما يثلج الصدر من آياتٍ وأحاديث وقصص ووقائع صدرت من أعف الناس وهم الأنبياء والرسل، وبالمثال يتضح المقال، في قصة موسى عليه السلام حين ورد ماء مدين وحوله الرعاة يسقون أغنامهم، فوقعت عيناه على راعيتين عفيفتين تذودان أغنامهما عن السقي حتى لا تختلطان ببقية الرعاة استجابة لأمر العفاف الفطري وتمسكاً بالموروث العرفي وهنا نقف قليلاً نتأمل لمن فهم من الآية مجانبة النساء للرجال بما يضر بمصلحة المرأة نفسها، ويستدل بالآية ونحوها على وجوب البعد بالمرأة والنأي بها عن مشاركة المجتمع فيما هو من خصائصها، ويضفي على رأيه جلباب العفاف ليكون أدعى لتسويقه وقبوله، ويهمل أن هناك رعاة ورعياً ووادياً يجمع الجميع قد أمنت فيه الفتاتان عن الخلوة المحذورة المحركة لغريزة الشر فلم يمنعهما تجمع الرعاة على مورد واحد من الرعي. ويكفي لإظهار العفاف والتخلق به اجتناب المورد عند ازدحام الرعاة، ولم يكن من العفاف أبداً أن تترك الفتاتان رعي الأغنام لأجل هذا العذر مع وجود ما يقتضي خروجهما وأبونا شيخ كبير فليس من العفاف أن تكون المرأة قادرة على كسب قوتها وقوت من تعول بعمل يدها ثم تترك ذلك لتكون هي ومن تعول عالة على الآخرين فالعفاف هنا يتطلب منها العمل بيدها والتحلي بالأخلاق المشروعة والموروثة، ووجودها كأنثى بين الناس ليس مانعاً لأهل العفاف من إعطائها حقها في التقديم وقضاء الحاجة، وليس ذلك من الخلوة بين أوساط الناس وصخب الحياة، فالمرأة يجب أن تحترم وتقضى حاجتها قبل مذلة السؤال قال ماخطبكما فهل ارتكب موسى عليه السلام هنا شيئًا مناقضاً للعفاف؟ الجواب حتما: كلا، وحاشاه. بل هو العفاف بعينه.
ولننظر إلى الحوار بين المرأتين وموسى، فإنهما لم تقولا له: لا تكلمنا، أنت رجل، والعفيفة لا تكلم الرجال. بل جاء العفاف في ثنايا الإجابة المختصرة منهما، المبينة للحال المسؤول عنها قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فما أجزلها من إجابة، ولم تقولا لا ساقي لنا حتى لا يفهم موسى منهما الضعف والرغبة، ولكنهما أظهرتا العذر بكل أدب وعفة نفس وخلق وحشمة، فاقتضت النخوة والعفة في موسى أن يمد لهما يد العون قبل أن تسألاه "فسقى لهما" هذا مشهد.
ومشهد آخر يصور العفاف على وجهه، فإن الشيخ الكبير والرجل الصالح والد المرأتين حين علم بما حصل لابنتيه مع موسى لم يعنفهما ويقل لهما أكلمتما رجلاً وتحدثتما مع غريب، أو ما أشبه ذلك بل علم الأب عفاف موسى وعفاف ابنتيه فأرسل ابنته فدعتْ موسى عليه السلام إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا وكانت القصة بينهما كما قصها القرآن الكريم. وكان كلامها معه على استحياء كما كانت مشيتها إليه على استحياء، يصف لنا حدود العفاف ومساحته.